الثابت
كل الأماكن المهجورة مخيفة،بالرغم أن هذا المكان يجب أن يكون علنياً،فهو محطة انتظار للحافلات،في شارع حي كشارع الرصافة،أمام مدرسة ثانوية و متجر كبير.
لكن تراكم القمامة حوله و الشجرتين التين تظللا عليه أضفيا عليه عزلة وصلت لحد الهجر،وليلاً يمكنك أن تتوقع أن ذلك الظل خلف المحطة ليس إلا لشيطان سيأخذ روحك،ذلك المقعد الحجري لم يبقَ منه غير ما يكفي بالكاد لإطلاق عليه اسم (مقعد)،والمظلة الحجرية أكلتها الأمطار،هناك...جلس ضدان.
رجل كهل،طويل القامة،يرتدي معطف مطر طويل،خشن اللحية،يحمل حقيبة،وبجانبه جلست فتاة شابة جميلة،تبدو كتمثال رخامي روماني،ترتدي ثياباً أنيقة عملية،تعبث في هاتفها المحمول،بدأت تمطر و حاول الرجل عبثاً إشعال سيجارة بقداحة ميتة فأشعلت له الفتاة سيجارته بقداحة أنيقة ثم أشعلت سيجارتها بدورها،نفثت الدخان وقالت:
-هل تؤمن بوجود الأرواح؟
-هذا لم يعد حتى مضحكاً،والآن،ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟
قالت بصوت نسائي أفسدته السجائر:
-الفضول...فقط الفضول،أنا أعرفك منذ كنت طفلة،كنت ترتدي نفس الثياب و تحمل نفس الحقيبة،وتجلس في نفس الوقت هنا،بالنسبة لشخص مثلي اعتاد على التغيير كل يوم،هذا ممل و بلا قيمة –أعذرني فهذا ما أراه-،إن مصير الحياة هو التغير الدائم،هيراقليطس يقول "أنت لا تنزل نفس النهر مرتين"،إن عمري لا يتعدى ربع عمرك،لكني شهدت من الأحداث و التغيرات حولي و في نفسي ما لَم تشهد،قل لي:ماذا تمثل؟ ما هي فائدتك؟
نفض رماد سيجارته و قال بروية:
-أنا جسر،لا يتغير،لكنه يقوم كل يوم بنفس الوظيفة بكفاءة،أنا ثابت في المعادلة،و الباقي متغيرات،لكن وجودي ضروري كي تجدي مخرج المعادلة.
أشارت للشارع الذي بجانبها بطرف السيجارة و قالت:
-معهد الخدمة الاجتماعية،مدارس،مسجد،معسكر للبحرية،السفارة الصينية،لا محلات،عمارتين أو ثلاث فقط...هذا شارع وحيد للغاية...
-للغاية كلمة غير دقيقة...
***
فجراً،يغطي الظلام بعبائته كل شيء،نسمع خشف نعال رجل رفيع،محدودب الظهر،يرتدي معطفاً قديماً صيفاً و شتاءً،وبنطالاً من القطيفة،ووشاحاً صوفياً قديماً يلفه حول رأسه -لم يفلح في تدفئته-؛فيده السمراء النحيلة على المفتاح الصغير ترتجف.
يفتح باب السور الحديدي الصغير حول المسجد،ثم يفتح باب المسجد نفسه،يشغل الأنوار و ينظر حوله،و حين يتأكد أن كل شيء في مكانه،يقف أمام مكبر الصوت،ويؤذن أذان الفجر الأول بصوت غليظ خشن،ومع ذلك فهو يؤذن كل يوم،لم يفكر أحد ذات يومٍ في النزول مبكراً و أخذ هذا الفضل منه برفق،و إن وجد شخص مبكر للصلاة،فهو لا يفكر أبداً في منازعته على الأذان أو الإقامة،وكأنه شجرة نبتت في هذا المكان،لا يمكن تحريكها إلا بقلعها أو قطعها.
يبدأ المصلون في التوافد،الشيوخ يأتون بتؤدة،ويجلسون على المقاعد في مؤخرة المسجد و يقرأون القرآن،والشباب يخرجون من الميضة يرتعشون كالدجاج المبلل،وقد نسوا كالعادة أن يتوضأوا في بيوتهم.
"الله أكبر....الله أكبر."
الأذان مرة أخرى بنفس الصوت الغليظ الخشن،لكن عند الصلاة،يتخلى صاحبنا أخيراً عن (حقه) و يشير لأحد كبار السن بالإمامة.
تنتهي الصلاة،ويخرج المصلون،البعض يتثاءب كي يعود لنوم لذيذ حتى الحادية عشر ظهراً،والبعض يفرك عينيه في ألم،عليه أن يصعد لبيته كي يستعد للذهاب لعمله،الشباب قد استبد بهم الاستيقاظ،و سيكون من الصعب أن يعودوا للنوم مرة أخرى...
و أخيراً يغلق الأنوار صاحبنا،و يتأكد أنه لم ينسَ أحداً أو شيئاً بالداخل،ويغلق باب المسجد بالمفتاح،ويمشي مشيته المحدودبة أسفل المظلة الحديدية،وقد ضعف خشف نعاله و بدأت أصوات السيارات في التغطية عليه،ينظر صاحبنا للسماء إلي منظر لم يمل منه طوال 50 عاماً،ينظر للسماء و خطوط الشمس البرتقالية تبدل سوادها زرقة صافية،فيكون لها لون الأحلام،بينما تصافح وجهه الأسمر نسمات الفجر،نسمات بكر وهواء غير مستعمل،لم يتنفسه أحد قبله،هواء يحمل رائحة الأشجار وحفيفها،وربما –أحياناً- يحمل نسيمات من البحر البعيد.
يتلقى صاحبنا هذا الهواء،ويتشقق وجهه الأسمر الذي نحتته الحياة مبتسماً.
***
الساعة السادسة،و "الرزق يحب الخفية و البركة في البكور." ،تقوم سيدة سمراء سمينة بفتح أبواب و نوافذ كشك خشبي في أول الشارع،بجوار المدرسة التجارية،وتبدأ في عرض بضاعتها الممثلة في الحلويات الخفيفة و الجرائد و الأهم بالطبع سخان الماء الذي لا يفتها أن تضعه على الطاولة خارج الكشك ليراه الجميع،وعلى الطاولة مرطبان سكر و كيس من الملح و علب أكياس الشاي و القهوة و الشعرية سريعتي التحضير.
في شارع تقع به مدرستان و معهد الخدمة الاجتماعية،و في نهايته مدرستان أخريان،هذا هو الرزق الحقيقي،وليس الجرائد التي يشتريها المدرسون و موظفو الجمعية الخيرية القريبة.
هاهم،تستطيع الآن التفرقة بين الناس،هذا الطالب الذي يرتدي قميصاً رمادياً كملابس السجون و المصحات النفسية و العصبية بالتأكيد طالب ثانوي،لقد نزعت البراءة من وجهه نزعاً،أما ذلك القصير ذو القميص الأصفر،فهو طالب إعدادي،لابد أنه معتدٌ للغاية بذلك الزغب تحت أنفه.
سيطلب الأول أن تضع له كيس القهوة سريعة التحضير مع الماء الساخن وسيأخذه و يرحل،أما الثاني،فسيقف لعشر دقائق يفاضل بين أنواع و نكهات تلك القهوة،وما سيأخذه معها من حلوى،وسيتفقد جيبه عشرات المرات،وفي النهاية سيأخذ ما يأخذه كل يوم و يطلب الكثير من السكر على القهوة سريعة التحضير ويرحل.
هذا الرجل الهرم منحني الظهر الذي يرتدي بذلة سافاري،سيأخذ صحيفة الأهرام و يمضي غالباً إلي دكانه في ميدان الرصافة.
سيسألها ذلك الشاب الذي يمضغ اللادن أن تقوم بتصوير ذلك الورق له،بينما تقف فتاتان خلفه وقد وضعا أصباغاً ومساحيق بإفراط -ربما أعطيا للشارع رائحة (الدوكو) الخفيفة الأبدية تلك- وستجيبه كالعادة أنها لا تملك آلة تصوير مستندات،وستخبره أن يتوجه للكشك الذي خلفها أو المكتبة التي عبر شارع الرصافة،طلاب المعهد بالتأكيد.
تلك السيدة المحجبة التي تقبض بحزم على يد طفلة ترتدي مريلة ستطلب شيئين لا ثالث لهما:زجاجة مياه و عبوة مناديل ورقية.
يختفي أصحاب الزي الموحد تدريجياً إلا من طالب أو اثنان يطلبون مايريدون باستعجال و ينصرفون بسرعة،ويحتل الشارع المزيد من ماضغي اللادن وواضعات الأصباغ،بينما تتصاعد الشمس رويداً إلي كبد السماء يبدو ذلك الكشك كصخرة على الشاطئ،تضربها أمواج الزبائن حيناً وحيناً تنحسر،يمر أمامها رجل تراه كل يوم كأنه أحد معالم الشارع، رجل رفيع،محدودب الظهر،يرتدي معطفاً قديماً صيفاً و شتاءً،وبنطالاً من القطيفة،و وشاح صوفي قديم يلفه حول رأسه.
توسطت الشمس السماء،ويتصاعد الصوت الخشن الغليظ مرة أخرى قائلاً "الله أكبر الله أكبر..."
توافد عنصر غريب على الشارع شاقاً طريقه بين ماضغي اللادن و واضعات الأصباغ إلي المسجد،هم أخلاط من الباعة و السكان المجاورين،و بينما يصلون،يقل العدد أمام المعهد رويداً رويداً،و بينما ينسحبون يأتي أصحاب الزي الموحد مرة أخرى،وقد تغضنت قمصانهم المكوية و بدت حقائبهم أكثر ثقلاً و ظهورهم أكثر إنحناءً.
عرفت صاحبتنا أنهم سيطلبون الآن شاياً بصوت مرهق،وربما سيطلب بعضهم سجائر فرط.
الكشك يفتح لتسع ساعات بالضبط،من السادسة صباحاً إلي الثالثة عصراً،حيث يختفي طلاب المدارس و المعهد،ويخلو الشارع إلا من معلمة أو أكثر يحسبون ماذا سيشترون من سوق الخضار بزين العابدين القريب.
وتبدأ صاحبتنا في لملمة الطاولة و وضعها بالداخل و غلق نوافذ المكان بالترباس،وقبل أن تمشي،أمسكت بعلبة الحلوى القديمة التي توضع فيها النقود،ونظرت للإيراد اليومي،وابتسمت...
الآن عليها أن تسرع لأن عليها أن تذهب لمحل ضيف في شارع السلطان حسين كي تحضر بعض البضاعة التي نفذت و هو سيغلق بعد قليل.
أغلقت الباب و النوافذ بالأقفال الصغيرة،وأسرعت،كان ذراعاها قد كلَّا من العمل،وساقها تنهشها،لكنها كانت تغادر مبتسمة.
***
يرتفع صوت غليظ خشن بالأذان من المسجد و الشمس قد قررت أن تستريح من وقفتها في كبد السماء،فمالت مكسبة جواً من الهدوء،الهدوء الشديد الذي جعل الإنجليز لا يختارون وقتاً غيره ليتناولوا فيه الشاي،ويخرج طفل من العمارة الأولى،ينظر حوله ثم ينادي داخل العمارة و يخرج طفلان و طفلتان،إنهم بملابس البيت،الميكروكروم البنفسجي يغطي ركبهم و أصابع أقدامهم،لقد قالوا لأهليهم أنهم أنهوا واجباتهم،وتلقوا النصائح بالحذر من السيارات و عدم إزعاج الجيران و نزلوا.
"بسرعة! الفضائيون سيهاجمون الأميرة دينا!"
هكذا يصرخ الربان أسامة في معاونيه الثلاثة: الضابط سعيد و مقاتل النينجا خالد و خبيرة الأسلحة إسراء.
يلتف فرساننا الشجعان حول الأميرة دينا التي تجلس في خوف،وينطلق النينجا مهاجماً الفضائيين بالركلات القوية،تعطي خبيرة الأسلحة إسراء الضابط سعيد مسدسه بعد أن عدلته و وضعت خرزاً أحمر مقاوم للفضائيين بدلاً من الأخضر المقاوم للبشر،و يبدأ إطلاق النار!
تشتعل المعركة عندما يجندل الربان أسامة حراس قائد الفضائيين –الذي له علاقة بالصهاينة و يتعاون معهم ضد مصر- بسيفه –الذي كان ساقاً لكرسي خشبي- و يقرر فارسنا أن يقتل قائد الفضائيين و يثأر لشهداء حرب أكتوبر منه.
لذا فيطلب معاونة أصدقائه،تطلق الأميرة دينا –و التي غالباً هي أجملهن- تعويذة سحرية عليه بينما يفرغ الضابط سعيد مسدسه فيه و يوجه النينجا ركلات ساحقة له و تصنع إسراء مدفعاً كبيراً و تطلقه عليه،ويختم الربان بضربة (سيف المعركة الحارق)!
لقد أنهوا المهمة،لكن لا يزال الفضائيين يهاجمون،لذا يحول الربان أسامة سفينته الفضائية إلي غواصة و يهرب منهم إلي المحيط العميق بكوكب ليبتون...
"اسمه كوكب نبتون،أيها الربان أسامة."
"نعم يا حضرة الضابط سعيد،أعرف ذلك لكني كنت أختبركم."
"قل والله."
"والله."
"لا قل والله الجملة كلها!"
تقوم إسراء بتغيير أسلحة المركب إلي أدوات صيد،لقد جائتهم تعليمات من القيادة الأرضية أن يصطادوا قرش نبتون الذي يفوق القرش الأرضي حجماً و شراسة...
"لماذا يصرخ هؤلاء الأطفال هكذا؟"
يقول هذا رجل مسن قد خرج من المسجد لتوه،فيربت رجل آخر على كتفه قائلاً:
-يلعبون،كذلك كنا نحن...
-نحن؟ نحن جيل لا يعوض يا صاحبي،أنا أذكر أنني و أنا في سنهم....
تحكى أمجاد ماضية،ويصنع الأطفال أمجادهم الحاضرة،فحربهم مع الفضائيين ستنتهي عندما عند مغيب الشمس.
***
نفثت الفتاة دخان سيجارتها السادسة منذ بدأت سماع القصة و قالت في عصبية:
-ما الممتع في هذا؟ إن طريقة عرضك هي ما يجعل الأمر يبدو كأنه مهم،لكن الأمر كله:عامل أوقاف،بائعة،طلبة ،أطفال يلعبون،ما الأهمية هنا؟ أنت فقط تجيد القص!
تناول كوب شاي ورقي من جانبه –من أين أحضره؟- ثم قال:
-دعيني فقط أحكي لكِ آخر حكاياتي،تلك الحكاية تبدأ عند ارتفاع صوت الأذان الغليظ الخشن من المسجد.
-حكاية ماذا؟
-حكاية الحريفة و الكالحين!
-What!؟ –قالتها بلهجة ممتازة بدون لكنة-
***
الأمر يشبه عمل المخابرات قليلاً،اتصالات كثيرة،ثم تحركات سريعة.
"سأنهي الدرس و آتي."
"نلتقي في محطة البنزين كي أنفخ الكرة،سأحضرها و نتقاسم ثمنها."
"انتظروني في المكان."
"أين سنلعب؟"
"أين برأيك؟ شارع الرعاية بالتأكيد!"
ينطلق البعض لشراء أحذية مستوية تسمى (سليبس) خاصة بلعب الكرة على الأسفلت،وهي رخيصة فلا تتعدى الخمسة عشر جنيه،و يشتري أحدهم الكرة،ويفضل شرائها غير منفوخة كي يملؤوها هم بالهواء حسب الأرض التي سيلعبون عليها،كرة من المطاط الصناعي كريه الرائحة،عندما تمتلئ مثل هذه الكرة بالهواء،تصبح مثل طلقة المدفع وزناً و تأثيراً،لهذا يُمنَع –في شبه اتفاق غير مكتوب- ركل الكرة بسن الحذاء كي لا تنطلق بقوى،إما بباطن القدم أو الكعب،لكن هذا ما يمكن إحضاره بالجنيهات القليلة التي يملكها هؤلاء الشباب.
ترتدى القمصان (البولي-إستر) التي تحمل أسماء النجوم:رونالدو و ميسي غالباً،روني،كاكا،أبو تريكة،و أحياناً البعض يملك قمصان نادرة لرونالدينهو و زين الدين زيدان.
يصل الجميع إلي شارع الرعاية،أما عن قصة الحريفة و الكالحين فسنحكيها.
الحريف هو كل شخص يملك مهارة في كرة القدم،سريع،مراوغ،يجيد إنهاء الهجمة...إلخ.
الحريف غالباً يكون طويل الشعر،طويل القامة أو قصيرها للغاية،أسمر،لم أرى في حياتي حريف أبيض البشرة،وهناك قاعدة مهمة في كرة الشوارع:(كل أعسر حريف).
الحريف عملة نادرة فلا يوجد من كل عشرة لاعبين إلا ثلاثة أو أربعة على الأكثر من الحريفة.
لذا فهناك قانون مهم:(لا يجتمع حريفان في فريق واحد).
والحريف دائماً يلعب كمهاجم ولا يقف كحارس أبداً،عموماً القاعدة تقول: (الحارس هو أسمن و أثقل من الفريق).
أما الكالحون فهم الكثرة،وهم يلعبون كرة القدم القبيحة،لا ميزة لديهم،ولا تكامل حتى لمن لديه بعض المهارات،من يجيد التحكم بالكرة لا يستطيع الجري بسرعة،من يجدي التصويب لا يستطيع المراوغة،السريع لا يتحكم بالكرة،من يجيد رؤية الملعب و وضع الخطط لا يملك أي مهارة يلعب بها،إنهم أنصاف لاعبين،يلعبون كمدافعين و حراس مرمى لأنهم لا يجيدون اللعب،فيشتتون أي كرة تصل إليهم،الكالحون هم "الغلابة" بمعنى أصح في كرة القدم،وفي كرة القدم –سواءً شوارع أو محترفين- هناك قاعدة أساسية: (الكرة لا تسعد الغلابة).
يصل صاحب الكرة و اثنان آخران إلي شارعنا،الشارع مناسب للعب،لا يوجد عمارات كثيرة،فقط مدارس و معهد الخدمة الاجتماعية و المسجد،الشارع يصل شارع الرصاف بشارع ميت فلا سيارات تمر إلا كل ساعتين تقريباً.
يصل باقي الأصدقاء بينما يتصاعد صوت غليظ خشن بأذان العشاء...
"أين كنتم!؟"
"حذائي انقطع فاشتريت (سليبس)."
"يا جماعة،أريد من كل فرد منكم ثلاث جنيهات من أجل الكرة التي اشتريتها."
"معي خمسة،اعطني جنيهان وخذها!"
"معي عشرين."
"معي عشرة..."
"لا يا جماعة،اجمعوا النقود معاً و سلموني 27 جنيه!"
تبدأ عملية أشبه بما يحدث داخل وسيلة مواصلات جماعية،وبعد نصف ساعة من "هات جنيهين" "اعطه ثلاثة" "خذ خمسة عشر و يبقَ لك جنيهان" أبرز فيها الشباب أنهم سيكونون محاسبين بارعين تسلم صاحب الكرة 27 جنيه.
دخل البعض المسجد و صلوا العشاء و عادوا بينما بدأت السماء تمطر.
سمعوا نقر المطر على المظلة الحديدية التي لم يلعبوا تحتها،كلهم يعشق اللعب تحت الأمطار،هذه القطرات رأوها يوماً على التلفاز تداعب وجه ميسي،يتألق في بهائها رونالدو،يتسابق معها ديفيد دي خيا،إنهم الآن ليسوا من هم،وليسوا أين هم،بل هم لاعبون عالميون يلعبون في إستاد كبير،كل الأعين تراقب حركة أقدامهم،قطرات المياه الصغيرة تلك صنعت لكل واحد منهم عالماً هو نجمه الأوحد.
أحضروا أربع أحجار صنعوا بهم المرميين،المرمى يكون باتساع أربع خطوات يقوم بهم نفس الشخص بنفس المشية،ثم يتم تحديد الفرق،أفضل لاعبيْن في المجموعة يصبحان قائدي فرقتين ثم يختاران من يلعب معهم.
"أريد هشاماً معي."
"سمير."
"سعد."
مجموعتنا اليوم تحوي خمسة حريفة و خمسة كالحين،و هو شيء نادر الحدوث.
أول من يسجل خمسة أهداف هو الفائز،تلعب المبارة بفريقين أحدهما يحتوي على ثلاثة حريفة و الآخر على اثنين.
يفوز الفريق الأول بالطبع بنتيجة متقاربة نوعاً (5-3).
كان الأمر مجرد فكرة،ثم أصبح طلباً،الحريفة الخمسة يريدون أن يلعبوا معاً أمام الكالحين الخمسة،يرفض الكالحون في البداية رفضاً قاطعاً،هذا يعني أن ينسحقوا جميعاً بنتيجة ثقيلة،ويصر الحريفة على رأيهم.
"نريد أن نلعب معاً ولو مرة!"
لا فائدة،تبدأ المباراة،يعطي الحريفة ضربة البداية للكالحين.
"إذا أردتم،يمكننا أن نمنحكم هدفاً!"
طفح الكيل! من يظن هؤلاء أنفسهم ليستهزئوا بنا؟ نحن لا نلعب جيداً،لكننا يمكن أن نريهم أن اللعب السيء يفوز أحياناً!
يومئ عبدالله إلي زملائه،عبدالله هو اضعفهم جسماً و أسوأهم لعباً،لكنه ذكي،يعطي ضربة البداية لسعد،سعد ضخم الجثة و لا يستطيع أن يجري،لكن تحكمه بالكرة ممتاز،يستخدم سعد جسده الضخم و يحجز على الكرة ثم يمررها تمريرة قصيرة لوليد،وليد الذي لا يجيد شيئاً سوى التصويب من بعيد يضرب الكرة من أول لمسة من منتصف الملعب تقريباً و الهدف الأول للكالحين!!!
حارس الحريفة هاني لاعب بارع،لكنه لم يكن حارساً للمرمى قط،فطن كل لاعبي الحريفة أنهم لم يلعبوا مدافعين قط،فمهما كان ضعف الهجوم من المنافسين لن يستطيعوا أن يثبتوا له.
و على النقيض فالكالحين يعرفون تماماً أنهم لا يستطيعون الهجوم،لذا فحلولهم بسيطة في التسديد من بعيد بدون بناء هجمة و هذا يحتاج لمهارات تمرير و مراوغة و سرعة لا يملكونها.
تلك التروس الصغيرة التي لا تملك بدونها الساعة الذهبية أي قيمة.
يأخذ الحريفة الكرة،يمر هشام من سعد لكن عمرو يقطعها منه،عمرو لا يجيد أي شيء سوى الجري بسرعة و افتكاك الكرة من المهاجم،لكنه لا يستطيع التصرف في الكرة ولا المراوغة ولا حتى التحكم بها لذلك فقد كان يشوط الكرة في أي اتجاه ليبعدها لكنه هذه المرة يتعقل و يرجعها للوراء إلي حارسهم رامي السمين،الذي كان يقف أغلب الوقت فيعرف كيف يتصدى للكرة و كيف يرميها بقوة بيده الضخمة.
يتحرك عمرو بسرعته اتجاه مرمى الحريفة فيطارده لاعبان،لم ينتبه أحد لسعد الذي رمى له رامي الكرة فاستلمها ببساطة كالعادة و اعطى تمريرة لوليد الذي كان أمام المرمى دون رقابة لأن الجميع كان منتبهاً لحركة عمرو السريعة فوضع الهدف الثاني للكالحين!
إنهم يفعلونها حقاً! إنهم يفوزون على الأفضل!
هشام يدرك الآن أمراً،الحريفة لم يلعبوا معاً من قبل،لكن الكالحين كانوا كثيراً ما يلعبون معاً،يعرفون مزايا و عيوب بعضهم البعض،ويفكرون معاً،أما هم فلم يعرفوا شيئاً عن الكرة سوى المراوغة و التسجيل.
ينطلق هشام بالكرة بسرعة و قبل أن يلاقي عمراً يمرر لسمير،سمير بارع و أعسر،لذا فمن الصعب إيقافه،يمرر سمير بيسراه تمريرة تكسر كل خطوط الدفاع إلي حسن المنفرد تماماً بالمرمى،و الهدف الأول للحريفة!
"سنعود بالنتيجة و نفوز!"
الكرة الآن عادت لسعد و رفاقه،سعد معه الكرة لكن شددوا الضغط عليه كي لا يمرر لوليد كالعادة،يشير عبدالله لعمرو الذي ينطلق بأقصى سرعته نحو المرمى فلا يلاحقه سوى لاعب واحد،لقد تعلموا الدرس،و تذكروا جميعاً أن عمراً من النوع الذي لا يستطيع إطلاق مدفع على مبنى و هو بداخله! لقد كان يضيع فرصاً غريبة للتسجيل ،فتركوه يتحرك ناحية المرمى،فلا خوف منه.
يتقدم عبدالله و يستلم الكرة من سعد و يمرر للخلف لوليد الذي تراجع،وليد يستلم ثم يشوط الكرة بأقصى قوته!
"هذا غباء يا وليد،لن تدخل من هذه المسا..."
يقطع كلامه مرأى الكرة و هي تمر بين الحجرين،الهدف الثالث للكالحين!
يركض عمرو نحو وليد و يعانقه و كذلك يفعل سعد،لقد استحقوا هذا الاحتفال تماماً! بقى لهم هدفان و ينهون المباراة!
"ماذا تفعل يا هاني!"
"لم أرَ الكرة! لقد تشتت انتباهي بمن يجرون أمامي!"
هذا ما حدث،جرى عمرو متعمداً أمام هاني و معه زميله صالح،لم يرى هاني الكرة و هي تصوب و لم يعرف أنها قد صوبت أصلاً،لذا لم يملك الوقت الكافي للتصدي لها.
"هذا لعب قذر!"
"لا يوجد في الكرة ما يمنع اللاعب من الركض أمام الحارس!"
"هكذا إذاً!"
يصبح صالح حارساً للمرمى بدلاً من هاني الذي نزل ليحرك الهجوم،هاني سريع للغاية و يتمكن من المرور من عمرو بسهولة و قبل أن يلعب الكرة لسمير المنفرد أمام المرمى تلقى دفعة من سعد أفقدته توازنه!
"ما هذا!"
"احتسب خطئاً علي و العبه! لن أناقشك!"
(الفاول) التكتيكي هو أن يرتكب المدافع خطئاً متعمداً كي يوقف هجمة خطيرة،يقف الحائط البشري،ويصوب سمير الأعسر الكرة في زاوية غير معتادة لكن رامي يوقفها بقدمه و يمسكها في يده و يلعبها كالعادة لسعد،لكن هاني بارع أيضاً في الافتكاك،يأخذ الكرة و يراوغ الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الهدف؟
لا! لقد أراد أن يضع الكرة من بين ساقي رامي كي يهينه لكن رامي قد اعتاد هذه الحركة و يوقف الكرة بكعبه،الآن هم يضغطون عليه! يلعب الكرة دون أن ينظر لأقرب زميل له،يستلم عمرو الكرة دون أي زاوية للتمرير و أمامه الآن حسن،لكن عمراً يقوم بحركة غريبة،يضرب الكرة في الرصيف فتمر خلف حسن فيلحق بها الأول بسرعته،و يقف أمامه هشام فيقوم بنفس الحركة،لقد مر من اثنين و هو الآن و المرمى ولا أحد معه ليمرر له و صالح الحارس يجري عليه ليغلق زاوية التصويب،وكعادته يغمض عينيه في رعب و يشوط الكرة.
"هداااااااااااف! رائع يا عمرو رائع!!"
هل هي هدف!؟ صالح يوبخ زملاءه الذين لا يدافعون جيداً،لابد أن يكون غاضباً لأن الكرة قد مرت من بين ساقيه قبل أن تدخل المرمى!
4-1 للكالحين،يحتاجون لهدف واحد ليفوزوا على أصدقائهم البارعين!
ينظر الكالحون لبعضهم البعض،هدف واحد...
قطرات المطر أصبحت رفيقة عليهم،إنها نثرات الندى و الزينة من الجمهور الذي يحييهم في مخيلتهم،وعلى النقيض،لقد كانت رصاصات تخترق لحم أصدقائهم الحريفة كي يتحججوا بها بعد المباراة إذا خسروا،الطقس السيء هو حجة ممتازة بكل اللاعبين الخاسرين عبر العصور و الأماكن،بداية من المصارع السلافي الذي يكره الجو الإيطالي الحار في الكولوسيوم سنة 114 ق.م و مروراً بلاعبي منتخبنا الذين يكرهون الأمطار الصيفية و الجو الجاف و الرطوبة الأفريقية –نعم يتحججون بهم معاً!!- و انتهاءً بأصدقائنا هنا.
حسن يلعب الكرة لهشام الذي يجد عمراً أمامه فيمرر الكرة لسمير الذي يجد عمراً قد طارد الكرة و وقف أمامه،أنهم يضغطون على حامل الكرة،يحاول سمير إرجاعها لحسن فيجده مراقباً من سعد،فيقرر المراوغة و يمر بالفعل لكن هناك ساق ابعدت الكرة من أمامه،وليد قد عاد من مكانه بالهجوم ليستخلص الكرة!
لا بأس لن يستطيعوا اللعب للأمام فكلهم بالخلف و قد أفقدهم حرصهم على افتكاك الكرة ميزتهم الهجومية،يتحرك سمير سريعاً ليغلق زاوية التسديد على وليد كي لا يسدد من بعيد مثل المرات السابقة،لكن وليد يرجعها للخلف إلي رامي الذي يشوط الكرة من المرمى للمرمى!
لا فائدة،هذه سهلة و سيمسكها صالح بالتأكيد،لكن قبل أن تهبط أرضاً قابلتها ساق نحيلة،و قدم صغيرة،تشي بأن صاحبها أبعد من أن يكون لاعباً لكرة القدم،مجرد لمسة صغيرة من تلك القدم كانت كفيلة بتحويل اتجاه الكرة بعيداً عن صالح و لداخل المرمى!
الهدف الخامس و هدف الفوز سجله عبدالله الذي كان دائماً آخر من يختاره أحد قادة الفرق لأنه لم يبقَ غيره،عبدالله الذي لا يجيد أي مهارة أو سريع،عبدالله الذي نسيه الجميع و ارتاحوا لأن وليد المهاجم في الخلف فلم ينتبهوا له و هو يتسلل من أجل تلك اللعبة بعينها!
تلك لحظات يتوقف المطر و قد رضت السحب عما شاهده،و يتحول الفائزون لأطفال يحتفلون و يتحول الخاسرون لكبار يتكلموا بلهجة "إنها مجرد لعبة على أية حال.".
كنا نقول أن "الكرة لا تسعد الغلابة"،لكن القواعد خلقت لكسرها أليس كذلك؟
المجد للكالحين،المجد لكل العاديين و غير المهمين و أصحاب المواهب الضعيفة.
المجد لكل ما هو قبيح،المجد لكل البدائل و لكل فتاة سمراء قصيرة و لكل شاب سمين.
المجد لكل الخجولين،المجد لتلك التروس الصغيرة التي تفنى كي تدق الساعة الذهبية.
المجد للغلابة في كل مكان!
***
سحقت سيجارتها بعنف تحت كعبها العالي،وقالت:
-والآن حولت مجرد لعبة بين شباب إلي قضية،أنت قاص بارع،أهنئك! لكن ليس لديك أي أهمية،أنت لن تتغير و ستبقى مكانك،أنت ثابت بالفعل على حالك،ستمضي البائعة و تأتي أخرى،وسيموت المؤذن و يعينون غيره،الأطفال سيكبرون و سيأتي غيرهم،و لن تترك أي أثر سوى ابتسامة على ركن فم أحد الكبار لو مر و تذكر أنهم كانوا يلعبون هنا،إذا سمحت،فلدي أعمال كثيرة (مهمة) أقوم بها! عن إذنك.
ثم قامت غاضبة،بقى صاحبنا في المكان قليلاً ثم قال:
-لقد كنت مصلى،ومتجراً،والكون نفسه،والمحيط العميق،وأخيراً ملعب كرة قدم،وبالرغم ذلك أنا في مكاني،لن أتغير،ولماذا أتغير و أنا في كل يوم أكون أماكن مختلفة؟ أنا لا أريد أن تمر علي السيارات أو اصبح مهماً أو أتردد على الألسن، اسمي يهمسه كل الحالمين،برزق وفير،بحرب فضائية،بساعتين من السعادة مع الكرة،إنهم يهمهمون باسمي لأنني أصبحت مهماً لهم،وهذا يكفيني أنني لم تؤخذ مني هويتي و سميت باسم محل شهير،أنا "شارع الرعاية".
نظر للساعة،بقى أربع ساعات تقريباً لكي يبدأ يومه، فتح حقيبته،وجد بها كرة قدم بلاستيكية رخيصة مثقوبة،ومسدس لعبة حشي بخرز أحمر –كي يقاوم الفضائيين بالطبع-،وعلبة حلوى قديمة توضع بها النقود، و وشاح صوفي قديم لم يفلح في تدفئة صاحبه.
0 تعليقات